-->

طوابير المصريين".. الحياة لمن استطاع إليها سبيلا




أصبحت عادة يومية يمارسها بشكل منتظم، يستيقظ في ساعة مبكرة من اليوم، عاقدًا العزم على تخطي كل العثرات والصعاب، فيصبر حتى النفس الأخير، لحين تأتي اللحظة التي يصبح فيها "رقم واحد" في "الطابور" الممتد إلى ما لا نهاية، فيحصل على كيلو اللحم وقطع الدجاج المجمد، وأغذية أخرى لتسد جوعه وتجعله يستمر على شفا الحياة، إن تأخرت عربة البضائع، التي عادةً ما تكون تابعة للقوات المسلحة أو إحدى الوزارات الخدمية، لا بأس من تكوين الصداقات مع هذا وذاك، يقتسمون الأعباء الحياتية فيما بينهم، فيمضي وقته معهم دون أن يشعر، وما أن ينتهي من تحصيل حصة أسرته بأسعار زهيدة، يستعد للمعركة الثانية مع رفاق المواصلات، والثالثة مع العمل ومشكلاته التي لا تنتهي، حتى تأخذه دوامة الصراعات اليومية إلى سبيل لا يعلمه.

ما سبق لا يتعدى كونه سيناريو اعتاده غالبية المصريين، وأصبح جزءا أساسيا للمشهد المصري كل صباح، ففي القرى والنجوع والمدن بأحيائها المختلفة، يتكرر نفس المشهد بتفاصيله، مع اختلاف الأشخاص، الذين جمعتهم ظروف اقتصادية واحدة، فتجد هذا العجوز يهرول إلى سيارة اللحوم والدجاج والأطعمة الأساسية المختلفة، كأنها آخر قطعة طعام ستدخل جوفه وبعدها سيموت! الجميع يسرع ليحجز مكانًا بالصفوف الأولى من "الطوابير" فيمكن أن يُدهس هذا العجوز تحت الأقدام المتهافتة على "اللقمة"، أو تنشب المعركة الأزلية بين سيدتين تدعي إحداهما أن هذا دورها لأخذ حصتها اليومية، فتصرخ "عايزة اللحمة يا باشا.. علشان أروح للعيال".

ولأن المصري معروف بقابليته للتأقلم مع كل جديد يطرأ عليه، والذي غالبًا ما يكون هذا الجديد آتيًا ومعه آليات متعددة لفرم المواطن "الغلبان" وجعل حياته أكثر ثقلًا وضيقًا، فالتطور الطبيعي الذي يلاحظه أي شخص يتجول في شوارع المحروسة، هو العزوف التام من قِبل الطبقة "المطحونة" عن التردد على الأسواق الكبرى أو الشعبية، أو السوبر ماركت، فإذا أردت أن تطعم أبناءك وجبة جبن تسد بها جوعهم أو يأخذونها معهم في المدارس، أو دجاجة ثمينة وبعض قطع اللحم، فعليك بتلك الصناديق الكبيرة المثبتة على ظهر سيارة تمشط أحياء القاهرة وضواحيها ذهابًا وإيابًا، تحمل لافتات مكتوبًا عليها "منفذ بيع منتجات القوات المسلحة".. "منفذ بيع منتجات وزارة الزراعة".

هذه الظاهرة لم تكن وليدة اللحظة الحالية أو هذه الأيام، فهي موجودة منذ فترة طويلة، لكنها استشرت بشكل ملحوظ على خلفية الأزمات الاقتصادية المتلاحقة التي أصابت السوق المصرية و"نفّضت" ما في جيوب المواطن بتمعن حتى تأكدت أنه خالِ تمامًا، ومعها ازدادت الصراعات اليومية والمشاحنات التي تملأ صدور المواطنين في الصباح الباكر، فتجعل معظهم غير قادر على تمضية باقي اليوم أو التعامل مع أي بشري آخر، فقد استنفد كل طاقته في طابور "اللقمة" الصباحي.

لم يتوقف الحال عند هذا فحسب، فلا يزال في جعبة المصري طرق أخرى يصارع بها الحياة التي تكابده، فالطعام باق لمن استطاع إليه سبيلًا، وسبل المصري في الحصول عليه لا حصر لها، أحيانًا تكون غير متوقعة وأحيان أخرى صادمة، فهو وحده الذي استطاع أن يقسم الطبقة "المطحونة" إلى طبقة عليا، تصطف على طوابير منافذ البيع التابعة للقوات المسلحة، وأخرى أقل ماديًا، تبحث عن مكان غذائها في أكوام القمامة، وسلالها العملاقة، فتجد أحدهم وهو يرتدي ملابسه المهترئة المليئة ببقع اختلطت مع تراب الشارع فتحول لون الثياب من لونها الطبيعي إلى لون اختصت به هذه الطبقة دون غيرها، يغوص داخل هذه السلة العملاقة فهي سوقه المتكاملة التي تحوي الخبز والخضراوات وأحيانًا الفاكهة، فيملأ أكياسه بهذه "الفضلات" ويعلقها بدراجته، ثم يبدأ ممارسة هوايته المفضلة في جمع زجاجات المياه الغازية الفارغة، وكل ما تحويه السلات من مخلفات صلبة قابلة لإعادة التدوير لبيعها في الأسواق، كمصدر للرزق.
هكذا يبدو الصراع الدائر بين المواطن الفقير وظروفه الاقتصادية والمعيشية، دائرة مغلقة يدور فيها وحده، يتخبط بها يمينًا ويسارًا لكنه لا يتعب من هذه المناوشات، فهو مع إشراقة كل صباح جديد على موعد مع بدء المعركة بأسلحته البسيطة، يستيقظ مبكرًا داعيًا الله ألا تنفد اللحمة "الحمراء" من منفذ البيع، وأن يجد الجبن الذي نفد أمس قبل أن يشتريه، آملًا أن يأتي الغد بما هو أفضل.



المحرر
كاتب المقالة
كاتب ومحرر اخبار اعمل في موقع kallabsh .

جديد قسم : دفتر أحوال

إرسال تعليق