-->

«انتفاضة الخبز» تفاصيل الـ 18 ساعة التي هزت كرسي الرئيس



اتجمعوا العشاق في سجن القلعة.. اتجمعوا العشاق في باب الخلق.. والشمس غنوة من الزنازن طالعة.. ومصر غنوة مفرعة فى الحلق.. اتجمعوا العشاق في الزنزانة.. مهما يطول السجن مهما القهر.. مهما يزيد الفجر بالسجانة.. مين اللى يقدر ساعة يحبس مصر؟

بتوقيع زين العابدين فؤاد، الشاعر المصري الفذ، الرّحال الذي عاش طيلة حياته على فوهة البركان، يتعامل مع السياسة بمنطق الفنان الذي جمع بين المنتاقضات، فظل إشعاعا ثقافيًا، بالكلمة يكشف الزيف ويصارع التلفيق والظلم ويضرب المخاتلة.

«دأب على كتابة القصائد المناهضة لنظام الحكم» جملة واحدة، هي التهمة التي فُصلت خصيصًا لاحتجاز الشاب زين العابدين فؤاد، على خلفية أحداث انتفاضة الخبر ١٩٧٧م اعتراضًا على قرار الحكومة برفع أسعار السلع الاستهلاكية، بعدما وقف الدكتور عبد المنعم القيسوني، نائب رئيس الوزراء للشئون المالية والاقتصادية ووزير التخطيط، تحت قبة البرلمان، ليعلن عن إجراءات تقشفية لتخفيض العجز، والسعي بضرورة الاتفاق مع صندوق النقد الدولي والبنك الدولي، لتدبير الموارد المالية الإضافية اللازمة، تطبيقًا لسياسة «شد الحزام» أحد مصطلحات الرئيس الراحل السادات الشهيرة.


كمين إن جاز التعبير نُصب لزين العابدين، بمعاونة أحد الزملاء في العمل، حيث كان يدرس الفلسفة في الأزهر، حاول هذا الزميل إقناعه بضرورة الحضور إلى مقر العمل، بعد انقطاع متصل دام لأسابيع منذ بداية الانتفاضة، وهو ما يمكن أن يعرضه للفصل، وبالفعل ذهب إلى عمله ليجد قوات الأمن التي عجزت عن الوصول إلى محل إقامته في استقباله، تفاصيل دقيقة يسردها العم زين بإتقانٍ شديد، وكأنها حدثت اليوم، يقول:«اصطحبتني القوات إلى نيابة أمن الدولة بميدان عرابي بالتوفيقية، بوسط القاهرة، والمفارقة أن المحقق كان حينها وكيل النيابة المستشار عبد المجيد محمود، الذي شغل منصب النائب العام فيما بعد،  فعلاقة صداقة نشأت بين  «متهم ومحقق » استجوبه مرات عديدة في قضايا سياسية أخرى.

«كانت المأساة المضحكة عندما اطلعت على نص الاتهام، فتساءلت مندهشًا، هل انتفض ٦ مليون مصري، ضد القرارات الأخيرة، متأثرين بقصائدي؟! ، إن كان هذا صحيح فهي مجاملة كبيرة منك»، يقول زين العابدين.

«حاتم زهران»..اسم لن ينساه زين العابدين ورفاقه، ممن اتهموا بالتحريض على العنف، والانتماء لتنظيمات يسارية، شاهد الزور الذي شهد على ما يزيد من ٣٠ شخصًا اعتقل على خلفية الأحداث، يقول الشاعر الثائر: «كان شخصًا يشبهني يعمل معلمًا بمدرسة ثانوية، بجوار كلية الهندسة جامعة عين شمس،  وانطلقت إحدى التظاهرات التي نظمها طلاب الكلية ، ومرت أمام المدرسة، فما من تلامذته إلا أن حملوه وبدأ الهتاف وتم تصويره، ووضعت هذه الصور في ملفي على اعتباره أنا، ومنذ أن شهد ضدي ذلك الزهران، لم تخلو شهاداته من المواقف الطريفة، ولاسيما إنني اعتدت الحضور إلى المحكمة خلال فترة حبسي التي دامت ١٨ شهرًا، لم يستطع أن يتعرف فيها علي وأنا وهو تجمعنا نفس القاعة».


يسترجع بالذاكرة واحدة من هذه المواقف الطريفة التي وقعت أثناء محاكمته: «كنت في إحدى الجلسات، وسأله المحامي الدكتور جلال رجب، لماذا تذكر أسماء كل المتهمين، وعند زين العابدين، تقل الشاعر زين العابدين فؤاد، كيف عرفت أنه شاعر؟!، فأجاب لأنه شاعر معروف، في هذه اللحظة طلب منه المحامي أن يصفني، وهنا انكشف زيف أقواله، وبدأ يصف المدرس البدين صاحب الصورة، وطلب مني الدكتور جلال أن أقف، وقال مالحقناش نسمنه، ورغم ذلك لم أحصل على براءتي، وكأن هناك ثأر بائت بيننا والنظام».

«كنا في الشارع بالتأكيد».. هكذا يقول زين العابدين فؤاد، ولكن لم يقتصر خروجهم على يومي ١٨ و١٩ يناير، وإنما منذ بداية عام ١٩٧٦، لدعم ومساندة الشرفاء من أبناء الحركة الوطنية، في معركتهم الانتخابية، لأنزه وأفضل انتخابات شهدتها الحياة النيابية المصرية منذ١٩٥٢ وحتى الآن، يتواجدون في الشارع السكندري لدعم أبو العز الحريري، ومع محمود الشاذلي، في معركته الانتخابية في الدرب الأحمر، ومختار جمعة في أسوان، وهو ما يفسر أن الشعارات التي كان يرددها الرفقاء في معركتها الانتخابية، رددتها الجماهير المنتفضة في ١٨ و١٩ يناير ١٩٧٧م.



داخل الزنزانة رقم «٥» في سجن طرة وتحديدًا في عنبر التأديب، قضى زين العابدين أربعة أشهر مدة احتجازه قبل صدور حكم بحبسه، داخل الحبسة تباطئت عقارب الساعة وكأنها في طريقها للتوقف تمامًا، تغدو للثانية قيمة، وتصبح اللحظة دهرًا يمر كزحف الغمام..أجساد ملتحمة، فالزنزانة لا تستوعب سوي شخصًا واحد، كان بها ٦ أشخاص، أسمائهم يحفظها شاعر النضال عن ظهر قلب.

مآسي إنسانية داخل عنبر التأديب، يذكر «فؤاد» بعضًا منها، وأرخها بين أبيات قصيدته «الشعر ماشي في طرقة العنبر»؛ منهم جابر ندى، صديق الحبسة، الذي كان يجري عملية جراحية في مستشفى بمدينة طنطا بمحافظة الغربية أثناء الانتفاضة، اتهم بالمشاركة في أحداث ١٨ و١٩ يناير، قيدت يداه بالكلابشات ، ولم تنتظر السلطات التئام جرحه، وقُبض عليه بعد العملية فورًا،  وتم إيداعه في عنبر التأديب.

فاروق رضوان، مأساة منفردة، فهو رفيق الحبسة، الذي دخل قسم السيدة زينب في ١٩يناير،كمحامي مدافعًا عن أحد المتهمين بالمشاركة في أحداث انتفاضة الخبز، وأصيب بطلق ناري نافذ داخل القسم، سبب له مضاعفات خطيرة، فأصيب بالشلل النصفي، وقطعت شرايين يده، وتهتكت أحباله الصوتية، وأصبح هو الأخر ضمن المتهمين، يقول العم زين كما يحب أن يطلق عليه شباب الثورة: «زُج بفاروق داخل الزنزانة دون العرض على طبيب، وخاض معركة حقيقية من أجل الحياة، وبإصرار شديد للعودة إلى سيرته الأولى، فتقمصنا نحن دور طبيب العلاج الطبيعي، بطلب منه، فكان يجلس إلى جانب أحدنا، يبدأ في تحريك يده بطريقة معينة حتى تعافى تمامًا وبدأ يستخدمها بشكل طبيعي، كما كان يبادر إلى حمل الدلو الذي نستخدمه في زراعة بعض الحشائش الصغيرة بين بلاطات الزنزانة، وهنا أذكر أيضًا أن المحامي كان له صوتًا جميل تأثر بعد الحادثة، إلا أنه استمر في الغناء وكان مصدرًا للإزعاج ولكن كانت إرادته أكبر من كل شيء واستعاد صوته الجميل أيضًا».

خمسين قرش جديدة عيدية، لافتة إنسانية لزين العابدين فؤاد داخل السجن، يقول: «كان من بيننا مجموعة لم تتجاوز أعمارهم العشرين عامًا، منهم الدكتور محمد هشام، أستاذ اللغة الإنجليزية في جامعة حلوان، كان طالبا في السنة أولى، ورفيق الكردي، ومحمد عبد الظاهر، شقيق الكاتب فتحي إمبابي، وأحمد عبد اللطيف، كان طالب في كلية الآداب، وتزامن احتجازنا مع العيد، فطلبت من عائلتي في إحدى الزيارات تسريب خمسينات قرش جديدة، أعطيتها معايدة للشباب ما دون العشرين، كنوع من المساندة ولتخفيف وحشة الاحتجاز».

« تنظيم الحياة العامة وتحسين ظروف الحبسة » كما يحب أن يصفها الشاعر الكبير، وقع على عاتقه، مهام تجاوزت الزنزانة رقم ٥، لتشمل باقي الزنازين، فكل المقدرات للجميع وفي خدمة الجميع، كانت العملة داخل السجن هي السجائر يقول: «كنت استخدم السجائر كعملة لشراء ما يحتاجه الرفقاء من مستلزمات، وكنت أعطي حصة المدخن ٣ منها يوميًا، وهو ما كان يضايق البعض ممن لا يعمل بأمر تلك العملة ولا سيما أن هناك وفرة في أعداد العلب، مع العلم إنني لست مدخنًا، وهو ما جعل كمال خليل، القيادي العمالي، يقول عني" رأس بلا كيف تستاهل القطع بالسيف».

في منطقة صحراوية قاحلة تبعد عن القاهرة بنحو 1000 كيلو متر، انتقل زين العابدين إلى زنزانة رقم «٩» بسجن أبو زعبل، التي قضى فيها نحو ١٤ شهرًا ما تبقى من العقوبة، التي جمعت نبيل الهلالي، المحامي اليساري الكبير، وزكي مراد، المحامي والشاعر اليساري الكبير، والكاتب الصحفي حسين عبدالرزاق، والشاعر أحمد فؤاد نجم، التي خرج وعاد إلى نفس الزنزانة، في تهمة اقتحام جامعة عين شمس، مع الدكتور مجدي عبدالحميد وآخرين.

داخل الزنزانة، ورغم قسوة ظروف الاعتقال، إلا أن الحياة لم تتوقف، احتفل الرفقاء العام السبعين لزهدي العدوي، الرسام الكبير وأحد المتهمين بالاشتراك في أحداث ١٨و١٩ يناير، ذلك الرسام ذو الصوت العذب الجميل، الذي كان يملأ الدينا طربًا حين يشدو لسيد درويش والشيخ زكريا أحمد، الذي جمعته به علاقة صداقة، وأيضًا دأب السجناء على مساعدة محمد هشام الطالب الجامعي الصغير ، الذي انتقل مع «زين» من سجن طرة إلى أبو زعبل، للسماح له بدخول مقرراته الدراسية، والتقديم لاختبارات نهاية العام.


بلغت المأساة المضحكة ذروتها داخل الحبسة عندما راسل معتقلي الجماعة الإسلامية، المتهمين في اختطاف وقتل الشيخ الذهبي، رئيس نيابة أمن الدولة العليا، يطالبوه بالسماح  لهم بدخول كتب والصحف وأقلام يقول الشاعر الكبير:" تم اعتقالي على اعتباري كاتب، وطلبت على الفور السماح بدخول كتبي وروق وأقلام، ووافقت النيابة على مطلبي، وأثناء الاعتقال تعرض أعضاء الجماعة الإسلامية للتعذيب، فأضربت عن الطعام تضامنًا معهم، واعتراضًا على سوء معاملتهم داخل السجن، وقتها استدعاني الدكتور عبد المجيد محمود، للتحقيق في أسباب إضراب وقال لي نصًا أنت بتدافع عنها دول لو وصل للحكم يقتلوك، فقلت هذا شيء آخر بيني وبينهم، وهم الآن سجناء سياسيين ويجب وقف التعذيب، فما به إلا أن سمح لي بالاطلاع على خطابهم للنيابة، وقالوا فيه نصًا:" من عبد الله فلان إلى رئيس نيابة أمن الدولة السفلى، نطلب مساواتنا بالكافر زين العابدين فؤاد، بالسماح لنا بدخول الصحف والمجلات، فإن وافقت فهذا أمر الله، وإن رفضت فهذا قضاءه".

«ندوة البطانية».. هكذا أطلق عليها المعتقلين من المثقفين والكتاب والفنانين، يستحضر زين العابدين فؤاد المشهد ويقول:" عند تخفيف ظروف الحبسة، كان يلتقي نزلاء الزنازين في إحدى الطرقات، كل زنزانة لها بطانية واحدة يجلس عليها أصحابها، يتناقشون في أحد القضايا العامة، يتطوع بعضهم في تلخيص كتاب قرأه يتذكر مضمونه ويعرضه على الحاضرين، ويناقشونه فيه أيضًا بعد السرد، كان لكل زنزانة إذاعتها الخاصة ولها شعار يميزها، يتبادلون خلالها الأخبار، والفقرات الغنائية والشعرية، وكان سعيد الحظ من يسجن مع صلاح عيسى، الكاتب الصحفي الكبير، لما كان بتميز به من حس فكاهي  ساخر، فكان دائمًا يستهل كلامه بسطر من أغنية لسيد درويش " بس الأكادة حبسة وظلومة..يكفينا شرك يا دي الحكومة".


الأشجار واغتيال مرزوق، والزنزانة رقم «٩»، تفاصيل خاصة داخل السجن يحكيها «زين» في الفصل الذي يتحدث فيه عن عبدالرحمن منيف، وذكريات الحبسة في سجن أبو زعبل يقول:" حسين عبد الرازق كان رفيقي في الزنزانة، أهدته زوجته فريدة النقاش، نسخة أصلية من رواية الأشجار واغتيال مرزوق، للكاتب عبد الرحمن منيف، لما كان الرفقاء يتبادلوا الكتب والروايات، طلبنا من عبد الرازق أي يترك لنا الرواية، ولاسيما أن عقوبته ستنقضي بعد ثلاثة أيام فقط، إلا أنه تمسك بالرواية وقال مقدرش دي هدية من فريدة، وهنا قرر عشرين سجين التناوب على قراءة الرواية خلال الثلاثة أيام المتبقية لحسين، وبعد وفاة عبد الرحمن منيف، صاحب الرواية صدر كتاب تذكاري عنه، كتب فيه عددًا من أصدقائه من بينهم محمود درويش، الشاعر الفلسطيني، وزين العابدين فؤاد الذي كتب فصلا تحت عنوان الأشجار واغتيال مرزوق، أو القراءة بالمناوبة في زنزانة رقم «٩»، يحكي فيه عن السجن وتاريخه وصولا للزنزانة رقم ٩».

من رحم التجربة يولد الإبداع، داخل السجن كان لكتابة الشعر نصيب كبير من وقت الشاعر المتمرد، خلال الحبسة استكمل ديوانه التاريخي، التي بدأه في حبسة سنة ١٩٧٢ وانتهى منها في ١٩٧٧، وسرب خارج أسوار السجن وطبع في بيروت تحت اسم «الحلم في السجن» عام ١٩٧٨، بعدما أمر السادات بحظر النشر لزين العابدين فؤاد، الذي لم يستطع أن ينشره  في مصر إلا  بعد أعوام عديدة تحت عنوان « ومين يقدر ساعة يحبس مصر؟».

لحظة أليمة مر بها الشاعر المتمرد، زادت فيها برودة السجن ووحشته، اللحظة التي علم فيها بخبر وفاة زوجته باسمة حلاوة، دون أن يُسمح له بالخروج لتوديعها. مشاهد دراماتيكية، لم تكن فصلا من رواية من وحي خيال كاتبها، إنما لحظات من واقع عاشه شاعر بحجم الضوء، كان على رأس  قائمة المثقفين «رد السجون»، وأحد المقاتلين في معركة الدفاع عن ذاكرة الوطن .

المحرر
كاتب المقالة
كاتب ومحرر اخبار اعمل في موقع kallabsh .

جديد قسم : دفتر أحوال

إرسال تعليق